تعود الباحثون و الدارسون للتراث العربی على النظر إلى الأدب من زاویة سیاسیة ، فحقبوه مجموعة من الحقب و الأزمنة الأدبیة ، وکان مرتکزهم فی هذا التقسیم التحولات السیاسیة التی اعترت بنیة المجتمع العربی القدیم .فقد عاش ابن عبد ربه فی فترة تمیزت بانقسام الغرب الإسلامی وقتئذ إلى ثلاث مجموعات هی : الأندلس و إفریقیة و المغرب . ففی الأندلس أسس الأمویون الفارون من دمشق إمارة قرطبة منذ سنة 138 هـ ، أما إفریقیة فقد کان یحکمها الأغالبة ، ثم الفاطمیون ، بینما کان المغرب بید الأدارسة .
التعریف بابن عبد ربه :
هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبیب بن حبیب بن حدیر بن سالم، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاویة بن هشام بن عبد الملک بن مروان ، أبو عمر. من أهل العلم والأدب و الشعر ، وکان لأبی عمر بالعلم جلالة ، وبالأدب ریاسة وشهرة ، مع دیانته وصیانته ، واتفقت له أیام وولایات للعلم فیها نفاق ، فساد بعد خمول ، وأثرى بعد فقر ، و أشیر بالتفضیل إلیه ، إلا أنه غلب الشعر علیه[1] .
وقد زاوج ابن عبد ربه أثناء التحصیل العلمی بین الثقافتین الدینیة و الأدبیة ، فانعکس ذلک على تألیفه لکتاب العقد ، حیث نجد الثقافة الدینیة حاضرة فیه بقوة ، إلى جانبها ، نجد حضور الثقافة الأدبیة کذلک ، بمعیة أخبار الغناء و الموسیقى. لکن على الرغم من ذلک، فإن ذلک فإن المصنف تعمق فی التحصیل و الدرس ، حتى عد من فقهاء الأندلس . ویذهب الدارسون إلى أن من أسباب اعتناء ابن عبد ربه بأدب المشارقة ، ما تلقاه عن شیوخه فی الأندلس مثل بقی بن مخلد و محمد بن عبد السلام الخشنی و محمد بن وضاح ، وجمیعهم من رجال المعرفة العمیقة و الرحلة الواسعة فی أقطار المشرق و الشهرة الذائعة فی الأندلس وأقطار المغرب[2] .
توفی ابن عبد ربه سنة ثمان وعشرین وثلاث مائة ، ومولده سنة ست وأربعین ومائتین.
عتبة العنوان :
إن العنوان وما یدور فی فلکه من إشارات تفتح للقارئ أفق انتظار إما للمساءلة أو لإعادة فهم منطق مؤلف ما أو غیر ذلک ، إذ یمثل العنوان إحدى أهم عتبات النص لذلک فهو یرتبط بالعمل کیفما کان ارتباطا واضحا . یقول ابن عبد ربه متحدثا عن تسمیة الکتاب : " وسمیته کتاب العقد الفرید لما فیه من مختلف جواهر الکلام ، مع دقة السلک وحسن النظام " [3].
لهذا ، فإن ابن عبد ربه کان دقیقا عند اختیاره کلمة " العقد " ، من خلال تسمیة الأبواب من حقل دلالی واحد هو الجواهر دون غیرها . وعن وصفه بالفرید یرى البعض أن " کتاب العقد اکتسب عند المؤلفین المتأخرین صفة ( الفرید ) ، فصار لا یعرف الآن إلا بهذه الصفة ، وقد راعى الطابعون ذلک فسموه ( العقد الفرید ) " [4] .
أبواب الکتاب :
حصر المصنف أبواب الکتاب فی خمس وعشرین وحدة من الجواهر جعل واسطتها أنفسها ، وأثمنها فی نظره ، وجعل عن یمینها اثنتا عشرة جوهرة ، وعن یسارها مثل ذلک . یقول مفسرا هذا الأمر : " وجزأته على خمسة وعشرین کتابا ، کل کتاب منها جزأن ، فتلک خمسون جزءا فی خمسة وعشرین کتابا [و] انفرد کل کتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد " [5].ثم یسرد بعدئذ عناصر العقد ، فأوله کتاب اللؤلؤة فی السلطان ، وخاتمته کتاب اللؤلؤة الثانیة فی النتف و الهدایا و الفکاهات و الملح ، أما واسطة العقد فهی کتاب الخطب .
وهکذا فإن الباعث على تسمیة المؤلف بهذا الاسم أن " أبواب الکتاب تؤلف بمجموعها عقدا متناظرا ، تتوسطه الواسطة ، وتتقابل فیه الجواهر الکریمة من الطرفین "[6] .
کما یخص کل فصل / جوهرة بمقدمة موجزة بلیغة ، فمن ذلک تمهیده لکتاب الزمردة فی المواعظ و الزهد بقوله : " ونحن نبدأ بعون الله و توقیفه ، بالقول فی الزهد ورجاله المشهورین به ، ونذکر المنتخل من کلامهم ، والمواعظ التی وعظت بها الأنبیاء ... " [7].
منهجه فی التألیف :
یتحدث ابن عبد ربه عن منهجه فی التألیف قائلا : " وقد ألفت هذا الکتاب وتخیرت جواهره من متخیر جواهر الآداب ومحصول جوامع البیان ، فکان جوهر الجوهر ولباب اللباب ، وإنما لی فیه تألیف الاختیار ، وحسن الاختصار و فرش فی صدر کل کتاب ، وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء ، ومأثور عن الحکماء و الأدباء . واختیار الکلام أصعب من تألیفه " [8] .
أما عن مقاییس اختیار المادة فیقول : " وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا وأظهرها رونقا ، وألطفها معنى ، وجزلها لفظا ، وأحسنها دیباجة ، وأکثرها طلاوة وحلاوة ، آخذا بقول الله تبارک و تعالى ( الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه ) " [9].
ویمکن تلخیص هذه المقاییس فی مقیاسین هما :
- مقیاس أدبی : الشرف ، الرونق ...
- مقیاس خلقی / دینی : مضمون الآیة الکریمة .
أما عن طریقته فی نقل الأخبار فیحددها فی قوله : " وحذفت الأسانید من أکثر الأخبار طلبا للاستخفاف و الإیجاز ، وهربا من التثقیل و التطویل ، لأنها أخبار ممتعة وحکم ونوادر ، لا ینفها الإسناد باتصاله ، ولا یضرها ما حذف منها "[10] . إذ یکون فعل القول – غالبا – هو الممیز الذی یمیز کلام ابن عبد ربه عن غیره .
فمن نماذج ذلک قوله : " ومن قولنا فی خدمة السلطان و صحبته :
تجنب لباس الخز إن کنت عاقلا ولا تختتم یوما بفص زبرجد "[11] .
ومن نماذج أقوال الغیر ، قوله : " قال عبد الله بن عباس : لا کبیرة مع استغفار ، ولا صغیرة مع إصرار "[12] ، وفی استشهاد آخر یقول : " قال أرسطا طالیس : عقول الرجال تحت سن أقلامهم "[13] .
ویجیب ابن عبد ربه ردا على سؤال : لماذا ألف کتاب " العقد " ؟ بقوله : " وقد نظرت فی بعض الکتب الموضوعة فوجدتها غیر متصرفة فی فنون الأخبار ، ولا جامعة لجمل الآثار ، فجعلت هذا الکتاب کافیا جامعا لأکثر المعانی التی تجری على أفواه العامة والخاصة ... وحلیت کل کتاب منها بشواهد من الشعر ، تجانس الأخبار فی معانیها و توافقها فی مذاهبها "[14] .
وقد استثمر المصنف مناسبة ذکر دواعی التألیف ،
لانتزاع التفوق من نفوس قارئی الکتاب ، فقد وصل ما انقطع من کلامه السابق
بقوله : " وقرنت بها غرائب من شعری ، لیعلم الناظر فی کتابنا هذا أن
لمغربنا على قاصیته ، وبلدنا على انقطاعه حظا من المنظوم و المنثور "[15]
.
وحاصل الکلام إن المنهج الذی اصطنعه ابن عبد ربه فی مقدمة
کتابه ، یعد بمثابة میثاق شرف بینه وبین القارئ ، إلا أننا نلاحظ غیاب
التصریح بالذین أثروا فی المصنف عند اصطناعه هذا المنهج . فأمجد الطرابلسی
یرى أن طریقة ابن عبد ربه ، کما یحدثنا عنها فی مقدمة کتابه ، هی طریقة ابن
قتیبة ذاتها ، من حیث جمع الأخبار ثم تصنیفها فی أبواب بحسب معانیها
العامة[16] .
مصادره :
یشیر ابن بسام الشنترینی فی ذخیرته
إلى رواج بضاعة الشرق فی الأندلس ، لذا لا نستغرب الاعتماد علیها أثناء وضع
التصانیف، فابن عبد ربه وإن کان قلیل الاشارة إلى المؤلفات التی نقل
عنها[17] ، نجد بعض مؤلفات ابن قتیبة و الجاحظ و ابن المقفع ترد فی کتاب
"العقد" مصرحا بها ، فمن ذلک قوله : " وفی کتاب للهند ( یرید بکتاب الهند
کلیلة و دمنة ) أن رجلا دخل على بعض ملوکهم ، فقال : أیها الملک ، إن
نصیحتک واجبة فی الصغیر الحقیر ، و الکبیر الخطیر "[18] .
ومن مصادره الأخرى ، ما یرویه لنا القلقشندی فی موسوعته "صبح الأعشى فی صناعة الإنشا " إذ یقول : " ولأبی عبیدة مصنف مفرد فی أیام العرب ، وقد أورد منها ابن عبد ربه فی کتاب العقد جملة مستکثرة "[19] .
وعلى سبیل الختم ، فالمصادر الهامة التی استقى منها ابن عبد ربه مواد کتابه هی[20] :
* کتاب " عیون الأخبار " لابن قتیبة .
* کتاب " البیان و التبیین " للجاحظ .
* کتب المبرد ، مثل : " الروضة " و " الکامل " .
* کتب ابن المقفع و دواوین الشعراء وهلم جرا .
على سبیل الختم :
وفی نهایة المطاف ، إن اعتبار کتاب " العقد الفرید " صورة مطابقة لکتب المشارقة ، له ما یبرره ، ونستحضر فی هذا المقام ثقافة شیوخ ابن عبد ربه ، إلا أن الکتاب یمتاز بدقة التبویب و التصنیف و الاختیار ، على الرغم من الانتقادات الموجهة إلیه .
کما حاول ابن عبد ربه أن یتدارک خلو الکتاب من الأدب الأندلسی فوشحه بأشعاره ، ویمکن اعتبار هذا الأمر محاولة من الکاتب لإثبات التفوق الشعری الأندلسی ، علاوة على الانخراط فی التواصل الأدبی بین المشرق و المغرب .
[1] جذوة المقتبس فی تاریخ علماء
الأندلس للحمیدی ، حققه و علق علیه : بشار عواد معروف و محمد بشار عواد ،
دار الغرب الإسلامی ، تونس ، ط : 1 ، 1429هـ/م2008 ، ص : 151 و 152 .
[2] الشاعر الأندلسی أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ، عبد القادر زمامة ، ضمن مجلة المناهل ، العدد : 5 ، ص : 259 .
المناهل / ص: 259 .
[3] العقد الفرید ، شرحه وضبطه وصححه : أحمد امین ومن معه ، دار الکتاب العربی ، 1983 ، 1 / 4 .
[4] الشاعر الأندلسی ، ص : 269 .
[5] العقد الفرید ، 1 / 4 .
[6] نظرة تاریخیة فی حرکة التألیف عند العرب فی اللغة و الأدب ، د أمجد الطرابلسی ، ط : 5 ، 1986 ، ص : 165 .
[7] العقد الفرید ، 3 / 140 .
[8] نفسه ، 1/ 2 .
[9] نفسه ، 1/ 3 ، والآیة من سورة الزمر ، رقم : 18 .
نفسه ، 1 / 3 و 4 . [10]
[11] نفسه ، 3 / 201 .
[12] نفسه ، 3 / 222 .
[13] نفسه ، 3 / 222 .
[14] نفسه ، 1 / 4 .
[15] نفسه ، 1 / 4 .
[16] نظرة تاریخیة فی حرکة التألیف عند العرب ، ص : 162 .
[17] العقد الفرید لابن عبد ربه ، عبد الستار فراج ، ضمن مجلة العربی ، العدد : 142 ، 1970م ، ص : 99 .
[18] العقد الفرید ، 1 / 10 .
[19] صبح الاعشى فی صناعة الإنشا ، القلقشندی ، وزارة الثقافة و الإرشاد القومی ، مصر ، 1 / 393 .
[20] تأثر ابن رشیق فی کتاب " العمدة" بابن عبد ربه فی کتاب " العقد " ، ص : 476 .